فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)}.
قوله: {رُشْدَهُ}: مفعول ثان. وقرأ العامَّة: {رُشْدَه} بضم الراء وسكونِ الشين. وعيسى الثقفي بفتحِهما. وقد تقدَّم الكلامُ عليهما.
قوله: {مِن قَبْلُ} أي: من قبلِ موسى وهارون. وهذا أحسنُ ما قُدِّر به المضافُ إليه. وقيل: من قبلِ بلوغِه أو نبوَّتِه. والضميرُ في {به} يعودُ على إبراهيم. وقيل: على {رُشْدَه}.
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)}.
قوله: {إِذْ قَالَ}: يجوزُ أن يكونَ منصوبًا بـ: {آتَيْنا} أو بـ: {رُشْدَه} أو بعالِمين أو بمضمر أي: اذكر وقت قوله. وجَوَّز أبو البقاء فيه أن يكونَ بدلًا من موضع قبلُ أي: إنه يَحُلُّ مَحَلَّه فيَصِحُّ المعنى، إذ يصير التقديرُ: ولقد آتَيْناه رُشْدَه إذ قال. وهو بعيدٌ من المعنى بهذا التقديرِ.
قوله: {لَهَا} قيل: اللامُ للعلةِ أي: عاكفون لأجلها. وقيل: بمعنى على أي: عاكفون عليها. وقيل: ضَمَّنَ {عاكفون} معنى عابِدين فلذلك أتى باللام. وقال أبو البقاء: وقيل: أفادت معنى الاختصاصِ. وقال الزمخشري: لم يَنْوِ للعاكفين محذوفًا، وأَجْراه مُجْرى ما لا يَتَعدَّى كقوله: فاعِلون العكوفَ. قلت: الأولى أن تكونَ اللامُ للتعليل، وصلةُ {عاكفون} محذوفة أي: عاكفون عليها لأجلها لا لشيءٍ آخرَ.
والتماثيل: جمع تِمْثال، وهو الصورةُ المصنوعةُ من رُخامٍ أو نحاسٍ أو خَشَبٍ، يُشَبَّه بخَلْقِ الآدميِّ وغيرِه من الحيوانات. قال امرؤ القيس:
فيا رُبَّ يومٍ قد لَهَوْتُ وليلةٍ ** بآنِسَةٍ كأنَّها خَطُّ تمثالِ

{قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)}.
قوله: {لَهَا عَابِدِينَ}: {عابدين} مفعولٌ ثانٍ لـ: {وَجَدْنا} و{لها} لا تَعَلُّقَ له؛ لأنَّ اللامَ زائدةٌ في المفعول به لتقدُّمه.
{قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54)}.
قوله: {أَنتُمْ}: تأكيدٌ للضميرِ المتصلِ. قال الزمخشري: وأنتم من التأكيدِ الذي لا يَصِحُّ الكلامُ مع الإِخلالِ به؛ لأنَّ العطفَ على ضميرٍ هو في حكمِ بعضِ الفعلِ ممتنعٌ. ونحوه {اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة} [البقرة: 35]. قال الشيخ: وليس هذا حكمًا مُجْمعًا عليه؛ فلا يَصِحُّ الكلامُ مع الإِخلالِ به؛ لأنَّ الكوفيين يُجيزون العطفَ على الضمير المتصلِ المرفوعِ من غير تأكيدٍ بالضمير المنفصل ولا فصلٍ. وتنظيرُ ذلك بـ: {اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة} مخالِفٌ لمذهبِه في {اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ} لأنَّ مذهبَه يزعم أنَّ {وزوجُك} ليس معطوفًا على الضمير المستكنِّ في {اسكُنْ}، بل مرفوعٌ بفعلٍ مضمر أي: وَلْتَسْكُنْ، فهو عنده من قبيل عطفِ الجمل، وقوله هذا مخالفٌ لمذهبِ سيبويه.
قلت: لا يَلْزَمُ من ذلك أنه خالفَ مذهبَه، إذ يجوزُ أن يُنَظَّر بذلك عند مَنْ يعتقدُ ذلك، وإنْ لم يعتقدْه هو.
و{فِي ضَلاَلٍ} يجوز أَنْ يكونَ خبرًا إنْ كانَتْ كان ناقصةً، أو متعلقًا بـ كنتم إن كانَتْ تامةً. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى في إبراهيم: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 52- 53]، وفي سورة الشعراء: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إبراهيم إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 69- 74]، فورد في الأولى: {وَجَدْنَا آبَاءَنَا} وفي الثانية: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا}، فيسأل عن زيادة {بل} في الثانية؟ وقد يسأل عن المختلف من حكاية قول إبراهيم، عليه السلام في الأولى: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] وفي الثانية: {مَا تَعْبُدُونَ} وظاهر القصة أنها واحدة وقد اختلف المحكي؟
والجواب عن الأول، والله أعلم: أن جوابهم في الموضعين ليس جوابًا لسؤال واحد، وإنما ورد جوابًا لسؤالين، فاختلف بحسبهما، فسؤاله في آية الأنبياء سؤال مطلع على معبوداتهم ما هي؟ بعد أن شاهد عبادتهم لها، ولزومهم إياها، وكيفية صورها. فقال: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} أي ملازمون، فلم يجدوا جوابًا إلا اعترافهم بأنها تماثيل مصورة منحوته، والتماثيل ما جعل من الصور مثالًا لغيره ونحي به نحوه، فأقروا بالعجز عن جواب مقنع، واستشعروا ما يلزمهم في عبادة ما يصنعونه بأيديهم، وتقدم وجودهم وجوده، فرجعوا إلى التقليد فوقع جوابهم على ما تقدم.
وأما آية الشعراء فإن سؤال إبراهيم، عليه السلام، إياهم بقوله: {مَا تَعْبُدُونَ} ورد مورد سؤال عن ماهية معبوادتهم وكيفيتها، وكأنه، عليه السلام، لم يشاهدها، وعلم أنهم يعبدون ما لايعبد، فسألهم عن ما هيته فجاوبوه: {نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} فجاوبوه معترفين بماهية معبوداتهم على ما أمرهم عليه، وطابق جوابهم سؤاله، فأردف، عليه السلام، بسؤال آخر، قاصدًا تعجيزهم والقطع بهم فقال: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء: 72- 73] أي إذا كانوا هكذا مستبدين غير مفترقين فذلك عذر في عبادتكم إياهم، فلما استشعروا ما يلزمهم عدلوا عن الجواب، وأضربوا عن طرفي الإثبات والنفي إلى تقليد الآباء وقالوا: {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 74]، وحصل من جوابهم بمفهوم الإضراب ببل أن آلهتهم لا تسمع ولا تنفع ولا تضر، إذ لو اتصفت بوجود هذه الصفات لما عدلوا إلى الإضراب.
فإن قيل إنما أضربوا عن أن يجيبوا بنفي أو بإثبات فكيف يقال: إن اعترافهم حاصل بأنها لا تسمع ولا تنفع ولا تضر؟ فأقول: لو وجدوا أدنى شبهة لتراموا عليها، فقد وضح أن جوابهم هنا بناء على ما بنوه جوابًا عليه لا يمكن غيره إلا بمخالفتهم المحسوس لو أنهم قالوا: إنها تسمع أو تنفع أو تضر، أو نسبتهم أنفسهم إلى ما عذر لعاقل في ارتكابه، ولا شبهة لو أفصحوا جوابًا بأنها لا تسمع ولا تنفع ولا تضر، ثم استمروا على عبادتهم إياها، فأضربوا عن ذلك إلى اعتمادهم على تعبد آبائهم، وجعلوا ذلك حجة على مرتكبهم على وهن هذا التعليق، ولهذا قيل لهم: {قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء: 54]، إن جوابهم هنا ببل لازم لما قصده، ولا يمكن بسقوطها، وإن جوابهم في آية الأنبياء لا يمكن فيه بل بوجه، فورد كل على ما يجب ويناسب، والله أعلم.
والجواب عن السؤال الثاني أنه لا حامل على القول بأن القصة واحدة، وإذا أمكن أن يكون ذلك في محلين ووقتين لم يلزم اتحاد الجواب، فلا سؤال، والله أعلم. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَلَقَدْ آتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)}.
أراد به ما تعرَّف إليه من الهداية حتى لم يقل بما يجوز عليه الزوال والأفول، لولا أنَّه خصَّه في الابتداء بالتعريف.. وإلاَّ متى اهتدى إلى التمييز بينه وبين خَلْقِه لولا ما أضاء عليه من أنوار التوحيد قبلما حصل منه من النظر في المخلوق؟
ويقال هو ما كاشَفَ به رُوحَهُ قبل إبداعها من تجلِّي الحقيقة.
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)}.
خاطبَ قومه وأباه ببيان التنبيه طمعًا في استفاقتهم من سَكْرَةِ الغفلة، ورجوعهم من ظلمة الغلظة، وخروجهم من ضيقِ الشُّبْهَة.
ثم سأل الله إعانَتُهم بطلب الهداية لهم. فلمَا تَبَيَّن له أنهم لا يؤمنون، وعلى كفرهم يُصِرُّون تَبرَّأ منهم أجمعين.
{قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)}.
ما استروحوا في الجواب إلا إلى التقليد، فكان من جوابه الحُكْمُ بالتسوية بينهم وبين آبائهم في الضلال، والحجة المتوجهة على سلفهم لزموها وتوجهت عليهم، فلم يرضوا منه بتخطئة آبائهم حتى قالوا: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ}. اهـ.

.تفسير الآيات (55- 58):

قوله تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرض الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما لم تكن عادته مواجهة أحد بما يكره، استأنف الإخبار عنهم بما يدل عليه فقال: {قالوا} ظنًا منهم أنه لم يقل ذلك على ظاهره: {أجئتنا} في هذا الكلام {بالحق} الذي يطابقه الواقع {أم أنت من اللاعبين} فظاهر كلامك غير حق {قال} بانيًا على ما تقديره: ليس كلامي لعبًا، بل هو جد، وهذه التماثيل ليست أربابًا {بل ربكم} الذي يستحق منكم اختصاصه بالعبادة {رب السماوات والأرض} أي مدبرهن القائم بمصالحهن {الذي فطرهن} أي أوجدهما وشق بهما ظلمة العدم، وأنتم وتماثيلكم مما فيهما من مصنوعاته أنتم تشهدون بذلك إذا رجعتم إلى عقولكم مجردة عن الهوى {وأنا على ذلكم} الأمر البين من أنه ربكم وحده فلا تجوز عبادة غيره {من الشاهدين} أي الذين يقدرون على إقامة الدليل على ما يشهدون به لأنهم لم يشهدوا إلا على ما هو عندهم مثل الشمس، لا كما فعلتم أنتم حين اضطركم السؤال إلى الضلال.
ولما أقام البرهان على إثبات الإله الحق، أتبعه البرهان على إبطال الباطل فقال: {وتالله} وهو القسم، والأصل في القسم الباء الموحدة، والواو بدل منها، والتاء بدل من الواو، وفيها- مع كونها بدلًا- زيادة على التأكيد بالتعجب: قال الأصبهاني: كأنه تعجب من تسهل الكيد على يده- انتهى.
وفيها أيضًا أنها تدل على رجوع التسبب باطنًا، فكأنها إشارة إلى أنه بعد أن تسبب في ردهم عن عبادتها ظاهرًا بما خاطبهم به، تسبب من ذلك ثانيًا باطنًا بإفسادها {لأكيدن} أكد لأنه مما ينكر لشدة عسره؛ والكيد: الاحتيال في الضرر {أصنامكم} أي هذه التي عكفتم عليها ناسين الذي خلقكم وإياها، أي لأفعلن بها ما يسوءكم بضرب من الحيلة.
ولما كان عزمه على إيقاع الكيد في جميع الزمان الذي يقع فيه توليهم في أيّ جزء تيسر له منه، أسقط الجارّ فقال: {بعد أن تولوا} أي توقعوا التولي عنها، وحقق مراده بقوله: {مدبرين} لأنزلكم من الدليل العقلي على تحقيق الحق إذ لم تكونوا من أهله إلى الدليل الحسي على إبطال الباطل.
ولما كانوا في غاية التعظيم لأصنامهم لرسوخ أقدامهم في الجهل، لم يقع في أوهامهم قط أن إبراهيم عليه السلام يقدم على ما قال، وعلى تقدير إقدامه الذي هو عندهم من قبيل المحال لا يقدر على ذلك، فتولوا إلى عيدهم، وقصد هو ما كان عزم عليه فشمر في إنجازه تشميرًا يليق بتعليقه اليمين بالاسم الأعظم {فجعلهم} أي عقب توليهم {جذاذًا} قطعًا مهشمة مكسرة مفتتة، من الجذ وهو القطع {إلا كبيرًا} واحدًا {لهم} أي للأصنام أو لعبادها فإنه لم يكسر وجعل الفأس معه {لعلهم} أي أهل الضلال {إليه} وحده {يرجعون} عند إلزامه لهم بالسؤال فتقوم عليهم الحجة، إذ لو ترك غيره معه لربما زعموا أن كلًا يكل الكلام إلى الآخر عند السؤال لغرض من الأغراض. اهـ.